رأى
حمار، وهو مسؤول عن محلّة، في منامه، أنّه ملك كامل الأوصاف: تاج، عرش
وصولجان. طار من الفرح. ثمّ رأى موكباً مهيباً من حمير الزرَد يشيّع جنازة
على إيقاع طبول وصنوج. وسرعان ما استيقظ وكلّ فرائصه ترتعد. وبعدما رشف
جرن ماء والتقط أنفاسه حاول أن يفسّر المنام. لكنْ لم يخلص إلى نتيجة.
وأخيراً انتبه، وهو قلّما ينتبه، أنّ له أعواناً، فلماذا لا يطلبهم
ويستأنس بعلمهم، خصوصاً أنّه سمع مَن قال أنّ العاقل هو الذي يضمّ عقول
الآخرين إلى عقله؟.
ولم يصبر، وهو المشهور بطول الصبر، حتى تشرق
الشمس، بل أسرع إلى نافذة تطلّ على جميع بيوت المحلّة الغارقة في الظلام،
ونهق قائلاً: "ها، يا أعيان ووجهاء المحلّة هبّوا من رقادكم واحضروا من
فوركم".
ولمّا لم يشتعل ضوء في بيت نهق من جديد مع جرعة زيادة.
وأيضاً من دون فائدة. ففتح حنفيّة النهيق على نحو غير مسبوق حتى أقلق
الريح التي أسرعت تولول وتنتف أوراق الشجر ولسان حالها يقول وأعمار الكرام
تطول: "إرحمونا، الدنيا ليل، وفي البيوت صغار ومرضى وشيوخ نائمون".
والحمار كأنّه ليس هنا، وأعوانه لم يهبّوا.
وكرّر ... واحتشدت الغيوم في السماء ولسان حالها يقول: "ما الخطب؟ ماذا أصاب المحلّة"؟.
وتململ
بركان، وزفرَ الدخانَ. ولمّا لم يرعوِ الحمار عن النهيق المنكر، انفجر،
والشتائم أطلقها حمماً على رأس كل إبن حمار، وبعض الحمم سقطت على غابات
فأضرم فيها النيران التي لم تنطفء إلاّ بعدما انتحبت السماء. ثمّ بلغ
السيل الزبى، وجرف في طريقه إلى البحر كلّ ما لم يقم على الصخر.
وأخيراً
إستيقظ الأعوان من سباتهم العميق، وطاروا إلى كبيرهم من دون أن يغسلوا
وجوههم أو حتى أن يجلدوا الذباب المتراكم عليهم، ووقفوا في صفوف أمام
حضرته، ونكّسوا رؤوسهم كأنّما عالمين بذنبهم، فيما هو يتفرّس غاضباً بهم،
حتى أخيراً حرّك أذنيه وذيله وسألهم مغمض العينين إذا فيهم من يجيد قراءة
الغد؟.
فنكّسوا رايات رؤوسهم، ما عدا أسنّهم الذي كان يلتهم ورقة ملفوف، فقد رفع قائمة وقال: "أنا".
وبعد أن قصّ الحمار منامه قال للمسنّ: "إذا أجدتَ التفسير وهبتكَ كيس شعير ومخلاةَ ذرةٍ بيضاء".
وأعملَ
المسنُّ عقلَه، وهو قلّما يُعمِل عقله، ولاحظ، وهو قلّما يلاحظ، أنّ شيئاً
ناقصاً في المنام ولا بدّ من إستيضاح. فقال: "أيّها الكبير، إنّ في المنام
فجوات ولا بدّ من ردمها. ها، هل كان العرش والصولجان والتاج من الأبنوس
والذهب والأحجار الكريمة أم من قصل الشعير وغيره من النجيليّات"؟.
واستهجن الحمار أن يسمع ما سمع، وخامرته الظنون وساورته الشكوك أن يكون المسن يستهزئ به فانفجر قائلاً: "ما هذا السؤال يا هذا"؟.
واهتزّتْ قوائمُ المسن. وعلم، وقلّما هو يعلم، أنّه في ورطة.
وأحنى رأسه وقال: "أنت الكبير، وأنا حقير الشأن، أرجو أن ترأف بي".
وأجهش
بالبكاء. وعلم الحمار أنّ المسن طيّب القلب، ولم يقصد إلاّ الإستزادة في
المعرفة. وقال: "بل كان العرش والصولجان والتاج من الأبنوس والماس والذهب
والعقيق والسفاير والكورباء والأوبال، ومن جميعها تشعّ أنوار تقصّر دونها
أنوار الشمس".
ولاحظ الحمار أن المسن لم يفرح بما سمع، فتقاذفتْه
الظنون والشكوك، ولكنّه عضّ على الجرح وقرّر، وهو قلّما يقرّر، أن يمدّ له
الحبل حتى تتراكم ذنوبه ويأخذه بها مجتمعة.
وسأله إذا كان لديه سؤال آخر؟.
فسأله
المسن، والعرق يزخ من جبينه خوفاًُ من أن يكون الجواب من نوع الجواب
الأوّل، فهذا يعني أن ما يظنّه قد يكون عين الحقيقة: "هل كانت الطبول
والصنوج تعزف لحناً فرِحاً أم كانت تعزف لحناً ترِحاً"؟.
ونقز الحمار، وفكّر في أمر وقاحة المسن الذي يستعجل العقاب لينزل به الآن وليس غداً. غير أنّه آثر الصبر.
وقال للمسن على مضض: "كانت الأنغام فرِحة لا ترِحة".
ولمّا
لاحظ أنّ المسن عليه علائم الإستياء أردف وقال له وهو يكزّ على أسنانه: "
آمل أيّها المسن ألاّ يكون هذا الجواب أيضاً قد أزعجك".
واعتذر المسن، عالماً أنّه في واد وأنّ الحمار في واد، وأنّ البلاء المحدق يقترب ويكاد يأخذ بأعناق العباد.
فعذرَه
الحمار، وخصوصاً لمّا رآه يقع ويقبّل حوافره قائلاً: "لا تظن بي الظنون
أيّها المبجّل، فأنا فقط أسأل بحدود السؤال، ولم تزلّ قدمُ اللسان الذي هو
من بعض علمك".
وقال له الحمار: "لا بأس، وإذا بعد في بطنك سؤال
فاسألْ على أن يكون السؤال الأخير، وبالمقابل خذْ حذرك ولا تخرج عن نطاق
الأدب وإلاّ فإنّي لن أغفر لك، وسيكون لك حافر ينزل على أمّ رأسك. هيّا
إنهقْ بما عندك".
وسأله المسن السؤال الذي من هوله جعل الحمار يُصاب
بفالج من شدّة عزم قذيفة انطلقتْ منه وأحدثت فتحة في الجدار: "هل كانت
الجنازة، أيّها الكبير بتمام أخلاقك وعظيم رأفتك بخدّامك، لميْت أم لحي"؟.
وكان الحمار يتوقّع سؤالاً مثل سابقيه، وهو قلّما يتوقّع، أمّا مثل
هذا السؤال الذي لا أب ولا أمّ له فهذا من المستحيلات، ولذلك هَوى من شاهق
نحو صخور المفاجأة المسنّنة، وكان منه ما سبق.
وزفر وشهق، حتى ارتجّت أركان المكان وتشقّقتْ مطارح في السقف وسقط رمل.
وقال
للمسن: "ها، أنت أيّها الحقير عين من الأعيان أم صبي من الصبيان؟. حتماً
إنّ الملفوف يذهب بعقل الفيلسوف، فكيف أيّها المخرِّف إذا كان العقل هو
عقلك؟. ها، ماذا في رأسك؟. أنطقْ، هل بلعتَ لسانك؟ هل أنت مدسوس علينا؟
مَن بعثك إلينا؟ إعترفْ، أيّها المنتن، كيف تكون جنازة لحي؟. متْ من قهرك،
واعلمْ أنّ الجنازة كانت لميْت".
وما أن لفظ الحمار كلمة "ميْت" حتى أخذت عينا المسنّ تغزل في محجريهما. حتى أخيراً وقع كلّه على الأرض مغميّاً عليه.
ورأى
الحمار ما رأى، وهو يلهث من الغضب، ونظر صوب الأعيان، وهو يهمّ أن يقول
لهم شيئاً، فإذا بهم جميعهم نيام، حتى أنّ بعضهم، وخصوصاً أولئك الذين في
الصفّ الأوّل، يشخرون. وتفرّس بهم غضباً. حتى أخيراً حرّك أذنيه وذيله على
نحو خاطف، ولسان حاله يقول، وأعمار الأعزّاء تطول: "لو كان لي أعوان غير
هؤلاء لما كنتُ أنا".
وأفرخَ روعُه، والتفت إلى الحاجب، بعدما رأى حركة في بطن المسن، وقال له: "إذهبْ واجلبْ دلو ماء وقبضة غذاء".
وفعل الحاجب.
ثم قال له الحمار: "صبّ الدلو على رأس المسن، وإذا رأيته يفتح فمه لقّمه قبضة الغذاء".
وفعل الحاجب.
ونهض المسن.
وبعدما
قضم ما في فمه، ولعقَ بلسانه قطرات ماء لا تزال تنزلق على رأسِه، قال
للحمار الذي يبتسم كأنّما يشجّعه على الكلام: "لماذا أيّها الكبير رأيتَ
العرش والصولجان والتاج من الخشب والمعادن والحجارة؟. فهل أنتَ أو نحن
نقتات مثل هذه الأشياء؟. ولو رأيت ما رأيت من القشّ لالتهمتََ منه
والتهمنا نحن أحبابك شيئاً منه معك. وهل كان الذين سبقونا أكثر إدراكاً؟.
حتى آلهتهم جعلوها ممّا يُؤكَل، واطمأنّوا وسكنوا وتورّدتْ خدودهم. ولمّا
أصابتهم المجاعة افتدتهم وقدّمت أبدانها قرابين. ولماذا أيّها الكبير رضيت
أن تعزف الطبول والصنوج ألحاناً فرِحة؟. فالفرِح للفرِح والترِح للترِح،
أمّا وفرِح لترِح فثانية الأثافي. إمشِ في أزقّة المحلّة وسترى أيّ حال هو
حالنا منذ كانت الأرض ومنذ كنّا، فهذا يفترسنا وذلك يقول لنا: "هش" و"حا".
وكيف تقبل أيّها الكبير أن تكون الجنازة لميْت؟. ألا تدري أيّها الكبير،
يا حامل السواطير، أنّ الميْت هو الذي مات عن خلف قليل، وأنّ الذي يموت عن
خلف عظيم هو حي؟. أيّها الكبير، أريدك أن تعلم أنّ منامك نذير شرّ مستطير،
فلن يطلع علينا صباح إلاّ وجميعنا من الهالكين".
ومن دون غيرها استقرّت اللفظةُ الأخيرة في أسماع الأعيان النيام، ففتحوا أعينهم بذعر، ورفعوا رؤوسهم.
وصاح واحد منهم يُدعى الأقطش، لأنّ له أذناً واحدة، فيما الثانية نهبها ذئب: "يا ويلتاه، كيف نحن من الهالكين"؟.
وصاح
آخر يُدعى الأجرب، لأنّه تصيبه أيّام في السنة يحك جسمه، وقيل أنّه مرضٌ
أصيب به خلال خدمته في جيش كان يغزو بلاداً: "كيف نحن سنهلك؟ وعلى ظهر مَن
إذا هلكنا ستنهض الأرض"؟.
وصاح ثالث من زاوية: "إنتبهوا، إنّ السقف سيقع".
وراح هذا ينهق وذاك يزعق وذيّاك يضرط من الخوف والقلق.
وفيما هم يتدافعون على غير هدى صاح واحد: "أرجوكم اعقلوا".
وسأله زميله: "وماذا تريدنا أن نعقل"؟.
وأردف بأعلى صوته: "أين هو الباب؟ أرشدوني أين هو الباب".
وقال واحد: "يا ليتني قبل أن آتي إلى هنا أوصيت أتاني بكرّنا، وأن تحذّره من القمار".
وقبل
أن ينهي قوله استقرّ حافر في خاصرته، ومن شدّة الألم فتح فمه وعضّ رقبة
وجيه بالصدفة هو إلى جواره. وهذا بدوره لبط عيناً بالصدفة كان يقف خلفه.
وعلى هذا النحو اختلط الحابل بالنابل. وأخيراً، ومن لا مكان طار حافر
واستقرّ في أمّ وجه الحمار الذي صاح تلك الصيحة حتى كاد السقف فعلاً يقع،
ثمّ قال، وهو يغطّي وجهه، بعدما خيّم على الأعوان صمت شعوراً بالذنب:
"آآآه".
ونظر الأعيان إلى بعضهم البعض، فرأوا الدم يلطّخهم، ورأوا
مسابح أسنان متناثرة على الأرض. وتهامسوا عن سبب ذلك؟ متناسين أنّهم للتوّ
كانوا مشتركين في حرب ضروس ولا مثلها حرب البسوس، أو حرب داحس والغبراء،
أو حرب اللصوص الأولى، أو حرب اللصوص الثانية، أو حرب ثعلب الصحراء، أو
حرب اختطاف جزيرة، أو حرب الناب والمخلب، أو حرب الرمح والثور.
وفيما
الحمار يصلح وجهه بقائمة، رفعَ جارتَها، وكأنّه يطلب من الوجهاء أن يعطوه
آذانهم، ولمّا لم يستجيبوا هدّدهم بإلقاء قنبلة ذريّة فوق رؤوسهم،
فامتثلوا.
وتنحنح وقال: "بورك بكم أيّها الأعوان، فلا ضرّ ولا ضرار،
ولا شرّ ولا أشرار، وجميعكم من الأحرار. ها، والبحر الأجاج الرجراج،
والسراج الوهّاج، والنعاج والدجاج، والسماء ذات الأوداج، إنّ فجْركم إلى
إنبلاج. وعندما أَنتهي من خطبتي تتسلّلون إلى دياركم على رؤوس حوافركم،
وتحرصون قبل النوم أن تملأوا بطونكم من معلفين، وتشربوا من جرنين، وتلبطوا
الهواء ثلاث مرّات، أو بقدر ما تشاؤون، ثمّ تنهقون ثلاث مرّات، أو بقدر ما
تشاؤون أيضاً، فليس على اللبيط والنهيق عدّ وحساب. وعندما ستستيقظون تنسون
هذه الليلة المشؤومة".
وأطبق فمه، فخرجوا على رؤوس حوافرهم.
وعملوا بما حفظوا عن ظهر قلب، ومثلهم عمل الحمار، من دون أدنى شكّ.